تعد واقعة اتهام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه من قبل أبي بكرة رضي الله عنه وإخوته من الوقائع المؤثرة في القضاء الإسلامي، حيث أبرزت صورة من صور السياسة الشرعية الجنائية التي ترشد القاضي للتحقق من صدق البينة، واختبار قوتها على إزالة البراءة الاصلية عن المتهم.
لقد كانت هذه الواقعة حدثاً مهماً تحدث عنها الفقهاء، ودرس سندها ومتنها المحدثون، وتناولها الصديق والعدو، وكل أخذ منها ما يلبي رغبته.
فالصديق المحايد صحح سند هذه الواقعة، ووجد في هذه القضية نموذجاً يبرز من خلاله مدى دقة قواعد القضاء الإسلامي، ومدى عمق فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدالته وحياده، وبيّن واقعية المجتمع الإسلامي في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، بعيداً عن عاطفة المحب التي حادت أحياناً عن الحياد، وأخذت تدافع بتضعيف سند الواقعة حيناً، أو تلتمس الاعذار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيناً آخر، أو تدافع عن مجتمع الصحابة بأسلوب يقرر عصمته وليس فقط عدالته.
في حين أن العدو صور الواقعة من زاوية مظلمة قبع فيها القضاء الإسلامي وهو في صور العاجز عن حماية العدالة، المتردد بين أهواء القضاة، ورغبات الولاة، بلا قواعد تضبطه، كما صور فيها عمر بن الخطاب مائلاً عن الحق، ومدافعاً عن المتهم وفاء للصحبة معه، ومضحياً بالشهود لبعد مودتهم عنه، ومتجاوزاً للنص الذي يوجب عقوبة صارمة على فعل جريمة الزنا المؤيد بأربعة شهود يشهدون على فعله. وتناسى أن النص الشرعي قرر ضوابط للشهادة ينبغي للقاضي التدقيق فيها والتحقق من وجودها.
والحق أن هذه الواقعة أبرزت مدى عمق السياسة الشرعية الجنائية لدى عمر بن الخطاب، كما بينت مدى انضباط قواعد الاثبات في النظام القضائي الإسلامي، وأصالة البراءة فيه؛ حيث رد عمر بن الخطاب شهادة ثلاثة شهود لعدم اكتمال نصاب الشهادة المطلوب في اثبات جريمة الزنا، ولعدم انضباط الشهادة ودقته، ثم عاقب الشهود الذين تلبست شهادتهم بالقصور وعدم الدقة، ولم تقو على إثبات اليقين لقوة الشك فيها.
لقد كان أسلوب عمر رضي الله عنه في فحص البينة يدل على حسن سياسته القضائية في إدارة عملية فحص البينة، في اتهام يوجب عقوبة تؤدي إلى ازهاق روح المتهم، حيث قام رضي الله عنه بتطبيق لوازم التأصيل الشرعي لقبول الشهادة، وجسد ذلك في التالي:
- أحضر المتهم والشهود في مجلس القضاء، بالرغم من بعد مكان سكناهم عنه، ولم يكتف بسماع الشهادة من راوٍ يرويها.
- قابل الشهود بالمتهم ومكنه من القدح فيهم.
- لم يلتفت الى قوة المتهم وكونه والياً، حيث أخضعه للوازم الاتهام بحياد.
- لم يصدق جزافا الشهود بالرغم من صلاح ظاهرهم، وصدق لهجتهم، ونبل مقصدهم من الشهادة.
- سمع شهادة كل واحد منهم بانفراد وتأمل.
- فحص بدقة شهادة كل واحد منهم.
- قارن بين شهادة كل واحد منهم بشهادة الآخر.
- تأمل في نتيجة تلك المقارنة التي أنتجت شكاً كافياً في قوة الاتهام.
- حكم بعدم دقة الشهادة، المنتج لعدم صحة الاتهام.
لقد كان هذا الأسلوب تقريراً للسياسة الشرعية الجنائية في فحص البينة في العموم، وتوضيحاً لما ينبغي أن يسلكه القاضي في التحقق من شهادة الشهود في اثبات حد الزنا على من اتهم به على وجه الخصوص، والتأكد من صدق انطباقها على الواقعة، وهذا من أبرز سمات النظام القضائي الإسلامي الذي يقرر العقوبات لضمان استقرار المجتمع، كما أنه في الوقت ذاته يقرر حصانة للمتهم بالفعل الموجب للعقوبة، وذلك بالتدقيق في الاتهام الموجه ضده، ووجوب فحص البينة والتدقيق فيها، وعدم اعتبارها اذا لم تنتج يقيناً يؤكد صحة الاتهام.